خطبة الجمعة .. واكتمل الحج وعاد الحجيج فماذا بعد؟

واكتمل الحج وعاد الحجيج فماذا بعد؟

لفضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان

19 ذو الحجة 1444 هـ – 7 يوليو 2023 م

————————————————————————————

الحمد لله المتفرِّد بكمال الذات، وجميل الصفات، المنزَّه عن مشابَهة المخلوقات، أحاط عِلماً بجميع الكائنات، ووَسِعَ سمعُه جميعَ الأصوات، في مختلف اللغات، نحمده سبحانه ونشكره، على سوابغِ نِعَمِه المتواتراتِ، وآلائه المتكاثراتِ، ونشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً نرجو بها بلوغَ عالي الدرجات من الجنَّات، ونشهدُ أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ رسولُه، الهادي إلى سُبُل الخيرات، المحذِّر من طُرُق المهالِكِ والضلالات، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، أُولي الفضلِ والْمَكرُماتِ، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليماً كثيراً مزيداً، مادامت الأرض والسموات.

أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، تقربوا إليه بطاعته، والإكثار من ذكره وشكره، وحسن عبادته، تودّدوا إليه بالتحدث بنعمه، والإحسان إلى خلقه، تعرفوا إليه في الرخاء يعرفْكم في الشدة، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، ومن خاف اليوم أمِن غداً، والربح لمن باع الفاني بالباقي، والخسران لمن سدّت مسامعه الشهوات، وآثر الحياة الدنيا. (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: وهكذا  انقضى موسم من أشرف مواسم أهل الإسلام، ومرّت الأيام المعلومات ثم الأيام المعدودات، وكانت تلك الأيام محملة بالخيرات والمسرات والفضائل والبركات، ذهب الحجيج وعاشوا رحلة الحج الأكبر، وتنقلوا بين المشاعر، وتعرضوا للنفحات؛ طمعاً في رضا رب الأرض والسماوات، عادُوا بعدها فَرِحينَ بما آتَاهمُ اللهُ مِن فضلهِ، مُستبشرِينَ بما مَنَّ عَليهم مِن توفِيقِهِ وحجِّ بيتهِ، فهنيئاً للحجَّاجِ حَجُّهُم وَعِبَادَتُهُم وَاجتِهَادُهُم… وأما في سائر البلدان فبشائر الخير لم تنقطع، فأدرك المسلمون عشر ذي الحجة التي هي أفضل أيام الدنيا عند الله، فصاموا يوم عرفة الذي يكفر صيامه سنتين، حتى صار كأنه من أيام رمضان، لكثرة صائميه حتى من الصغار، ومر بهم يوم النحر فصلوا وضحوا، وامتلأت مصليات الأعياد، ثم توالت عليهم أيام التشريق فأكلوا وشربوا وذكروا الله، وحمدوه وشكروه على ما رزقهم، فما أجدرهم أن يفرحوا بذلك كله؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) وهكذا عباد الله تنقضي مواسم الخير، بل هكذا تنتهي حياة الإنسان سريعة خاطفة ثم يجني ما أودعه فيها، فطوبى لمن قدم خيراً، ونال ثواباً وأجراً.

أيها المؤمنون: ولعلنا وفي عجالة نستذكِرَ شيئاً مما قد تعلَّمناهُ من مدرسةِ الحجِّ من فوائدَ، وَمَا جنيناهُ خلالَ أَيَامهَا مِنْ عَوَائِدَ.

من أبرز دروس فريضة الحج تلكم المحبةَ التي جعلها الله تعالى لبيته الحرام في قلوب عباده، يقول تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) يقول الصحابي الجليل عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: لا يقضون منه وطراً، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. مع أن مكة المكرمة شرفها الله، أرض جرداء، وجبال سوداء؟ ومع هذا فقلوب المؤمنين كلُها تحن إليها، لا لأجل بقعتها؛ بل لأنها مأوى طاعة الله وتنزُّل رحماته.

ولهذا أخبر سبحانه أنه (مثابة للناس)؛ أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً؛ بل كلما ازدادوا له زيارةً ازدادوا له اشتياقاً، ولله در القائل.

لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها

                                          حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً

عباد الله: لن ينسى الحجاج إلى بيت الله الحرام مشهد الحجيج في عرفات، حين كانت العيونُ دامعةً، والأكفُ مرفوعةً، والقلوبُ مخبتة، الجميع عرف هناك فقره وذله، ورأينا شيئاً من دلائل عظمته سبحانه وتعالى. حين نرى ونشاهد ألواناً من الناس كلٌ يدعو ربه بلغته، كل يطلب حاجته، كل يناجيه بخفي الصوت، وهو سبحانه العظيم لا تختلف عليه حاجة، ولا يشغله طلب عن طلب، بل يسمع ذلك كله، فيجيب سؤالاً، ويغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويشفي مريضاَ، ويغني فقيراً، وهو على كل شيء قدير، وذلك شيء من دلائل عظمة الله وقدرته وكرمه ورحمته بعباده. وصدق الله العظيم: (إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)

ومن دروس الحج أنك ترَى الحاجَّ يتحرَّى ويسأَلُ، ويتتبَّعُ ولا يحيدُ؛ حتَّى يكونَ حَجُّهُ كُلُّهُ وفقَ الهديِ النبوِيِّ الْكَرِيمِ، وهذا شيء جميل لكن الأَجملَ أَنْ يجعلَ العبدُ المسلمُ هذا الاقتفاءَ وذاك الإتباع مَنهجَهُ فِي حياتهِ كُلِّهَا؛ فِي عبادتهِ لربه ومُعاملتهِ مع خلقه، فِي مَظهرِهِ ومَخبرِهِ، فِي حضَرِهِ وسفرِهِ، ونومهِ ويَقظَتِهِ، وفي أَحوالهِ كلِّهَا يكونُ قَرِيباً مِنْ سنَّةِ نبيِهِ صلى الله عليه وسلم مُتعلِّقًا بِهَا. وإِذا رُزِقَ العبدُ اقتِفاءً حسناً فتحتْ لهُ الْهدايةُ أَبوابها، وتنزَّلتْ عليهِ الرَّحماتُ الإِلَهِيَّةُ، يقول تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) عباد الله: لقدِ استحضرَ الحجَّاجُ قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: أنَّ (الحجَّ المبرورَ ليسَ لهُ جزاءٌ إِلَّا الجنَةَ)، فأَنفقوا أَموالهمْ، وضحّوا بأوقاتِهِمْ، وتحمَّلُوا مَا تَحملوا بنفُوسٍ مُطمئنَّةٍ، وقلوبٍ راضيَةٍ.. إِنَّ استشعارَ ثوَابِ العملِ الصالح يُعلي الهمةَ، ويطردُ الكسلَ، ويربِي فِي المسلِمِ الحرصَ على الأَعمالِ الصالحاتِ، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا، وَالْتِزَامَهَا طِيلَةَ الْحَيَاةِ.

أما والله لن يتساهل أو يفرط في الصلاة من سمع قول الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) وقوله سبحانه (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وقوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة: (من حافظَ علَيها كانت لَهُ نوراً وبرهاناً ونَجاةً يومَ القيامةِ).. أَما واللهِ لن تترد يدٌ عنِ الصَّدقَةِ، ولنْ تشِحَّ نفسٌ عنِ البذلِ والإنفاق، إِذَا ما استحضَرَتْ صِدقًاً قولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حتَّى تكونَ مثلَ الجبلِ أَو أَعظمَ).

أيها المؤمنون: وعَلّمتنا مدرسةُ الحجِّ أيضاً قصرَ الأَملِ، لقدْ خرجَ الحاجُّ مِنْ ديارِهِ مُصَبِّراً نفسهُ علَى الطَّاعَاتِ، حَابِساً هواهُ عَنِ الشَّهَواتِ طِيلةَ أَيَّامِ مِنًى وعرفاتٍ؛ لأَنَّهُ يَستيقِنُ أَنَّها ساعَاتٌ معدوداتٌ ويأتِي الرَّحيلُ عمَّا قرِيبٍ. فما أَجملَ أَن يستحضرَ الحاجُّ قصرَ أَيَّامِ عُمرِهِ، وأَنَّ المُكثَ فِي هذهِ الدَّارِ قلِيلٌ، والبَقَاءَ فيها يسيرٌ، وهذَا مبدأٌ ربَّىَ عليهِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صحابتهُ الكرامَ حين قال: (كن فِي الدُّنيَا كأنَكَ غريبٌ، أَو عابرُ سبيلٍ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: وإذا كان الدخول في الإسلام يجب ما قبله وينقل الإنسان من الموت إلى الحياة، فإن الحج كذلك يجب ما قبله، إنه يسدل الستار على كل السلبيات التي تَلَبّسَ بها المسلم والمسلمة من قبل.. نعم عباد الله الحج مرحلةٌ فاصلة بين حياة وحياة، بين ماض وآت، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَجَّ، فلَمْ يَرْفُثْ، وَلم يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدْتُهُ أُمُّهُ) يرجع الحاج أبيض الصفحة، نقي التاريخ، يعود سالماً من تبعات ماضيه، آمناً من غوائل معاصيه، كما أن من صام يومَ عرفه، يفوز بغفران سنتين ماضية وآتيه، إذن فتلك الأيام التي مرت، كانت بمثابة صفحة جديدة طوت ما قبلها بإذن الله، خرج منها المسلمون ممن وفق للحج أو لصيام يوم عرفة. وقد حطوا عن كواهلهم تبعات السنين وزلات الماضي، وأقبلوا وهم يقولون، (تائبون آيبون لربنا حامدون). ولا يشترط في التوبة إلى الله معاشر الأحبة أن تكون بسبب ذنب ومعصية، بل قد تكون انتقالاً من عمل إلى عمل أحسن منه، ومن خلق إلى خلق أكرم منه، ومن فهم إلى فهم أفضل منه، ومن حياة طيبة إلى حياة أطيب (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) إن الله يحبهم لأنهم متجددون إلى الأفضل وأحوالهم في تغير إلى الأحسن في كل عام يزيد قربهم من ربهم، وتزيد عبادتهم، ويزداد فقههم، ويتعاظم ورعهم.

يا من قصدت بيت الله الحرام، ليكن حجك أول فتوحك، وتباشيرَ فجرك، وإشراقَ صبحك، وبدايةَ مولدك، وعنوانَ صدق إرادتك، تقبل الله حجك وسعيك، وأعاد الله علينا وعليك هذه الأيام المباركة أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة، والأمة الإسلامية في عزة وكرامة، ونصر وتمكين، ورفعة وسؤدد.

أيها المسلمون والمسلمات: وبهذه المناسبة الكريمة، وانطلاقاً من قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، (لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ) فإننا نتقدم بالشكر والتقدير لقيادتنا الكريمة ممثلة في جلالة الملك حمد بن عيسى ملك البلاد المعظم، وسمو الأمير ولي العهد رئيس الوزراء سلمان بن حمد حفظهم الله والحكومة الموقرة، على توجيهاتهم السديدة، ودعمهم المستمر لبعثة مملكة البحرين للحج وحرصهم على تقديم أفضل الخدمات لحجاج بيت الله الحرام من المواطنين والمقيمين واتخاذ كل ما من شأنه تحقيق راحة الحجاج وتذليل العقبات أمامهم والحفاظ على سلامتهم وصحتهم.

كما نتقدم بالشكر والتقدير والامتنان لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله وولي عهده وحكومته الرشيدة، بالمملكة العربية السعودية، على ما قدموه ويقدمونه لأمتهم الإسلامية من رعاية وتفان واهتمام بالحرمين الشريفين، ونهنئهم على نجاح موسم الحج لهذا العام وكل عام، فالجهود الكبيرة التي تقوم بها حكومة خادم الحرمين الشريفين لراحة وخدمة ضيوف الرحمن، تشهد تطوراً كبيراً عاماً بعد عام، مما سهل على الحجاج أداء مناسكهم بيسر وسهولة، وفي جوّ إيماني وروحاني مبهر.. نسأل الله تعالى أن يوفق القائمين على خدمة الحرمين الشريفين لما يحب وترضى، وأن يسدد على طريق الخير خطاهم، وأن يجزيهم خير الجزاء، ويجعلهم مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يصلح لهم البطانة، ويجمع بهم كلمة المسلمين، ويجعلهم حامين لبلادهم وبلاد ومقدسات المسلمين إنك سميع الدعاء.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على فضله وإحسانه، أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: في الأيام القليلة الماضية، قضى الحجاج عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أعظم القربات، ثم عادوا بعدها إلى ديارهم سالمين غانمين، فرحين بما آتاهم الله من فضله، فهنيئًاً للحجاج حجُهم، وللعُبَّاد عبادتهم واجتهادهم،  فيا من حججتم إلى بيت الله الحرام: اشكروا الله على ما أولاكم، واحمدوه على ما حباكم وأعطاكم، تتابع عليكم برّه، واتصل خيره، وعم عطاؤه، وكملت فواضله، وتمت نوافله، (وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) ظنوا بربكم كل جميل، وأملوا كل خير جزيل، وقوّوا رجاءكم بالله في قبول حجكم، ومحو ما سلف من ذنوبكم، فقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) وقال عليه الصلاة والسلام: (إنّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالله مِنْ حُسْنِ العِبادَةِ)

أيها المؤمنون والمؤمنات: يا من حججتم البيت العتيق، ها أنتم وقد كمل حجكم وتم تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيك المشاعر، وأديتم تلك الشعائر، ورجعتم إلى دياركم، فاحذروا من العودة إلى التلوث بالمعاصي والمحرمات، لقد فتحتم في حياتكم صفحة بيضاء نقية، ولبستم بعد حجكم ثياباً طاهرة جديدة، فحذار حذار من العودة إلى الأفعال المخزية، والمسالك المردية، والأعمال الشائنة، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وما أقبح السيئة بعد الحسنة.

عباد الله: إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله منارة، سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟ فقال: (أن تعود زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة)، فليكن حجكم حاجزاً

لكم عن مواقع الهلكة، ومانعاً لكم من المزالق المتلفة، وباعثًاً لكم إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، واعلموا أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل.

أيها الأخوة والأخوات: ما أجمل أن يعود الحاج بعد حجه إلى أهله ووطنه بالخلق الأكمل، والعقل الأرزن، والوقار الأرصن، والعرض الأصون والشيم المرضية، والسجايا الكريمة، ما أجمل أن يعود الحاج حسن المعاملة لجلاسه وأبناء وطنه، كريم المعشر مع أهله وأولاده، طاهر الفؤاد، ناهجاً منهج الحق والعدل والسداد، المضمر منه خير من المظهر، والخافي أجمل من البادي، وإن من يعود بعد الحج بتلك الصفات الجميلة، هو حقاً من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره.

أيها المسلمون والمسلمات: أين أثر الحج فيمن عاد بعد حجه مضيعاً للصلاة، مانعاً للزكاة، آكلاً للربا والرشا، متعاطياً للمخدرات والمسكرات، مؤذياً لعباد الله، قاطعاً للأرحام والغاً في الموبقات والمحرمات والآثام، لا يبالي بأمرٍ أو نهي؟ يا من امتنعتم عن محظورات الإحرام أثناء حج بيت الله الحرام، إن هناك محظورات على الدوام، وطول الدهر والأعوام، فاحذروا إتيانها وقربانها، يقول جل وعلا: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ) وكونوا على خوف ووجل، من عدم قبول العمل، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) فقلت: أهم الذين يَشرَبونَ الخَمرَ ويَسرِقونَ؟ قال: لا يا بِنتَ الصِّديقِ، ولكِنَّهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصَدَّقون وهم يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم، (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) فاتقوا الله عباد الله في كل حين، وتذكروا قول الحق في كتابه المبين: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا صَالِحَ الأَعْمَالِ وَاجْعَلهَا خَالِصةً لِوَجْهِكَ الكَرِيمِ. اللهم أشغل قلوبنا بحبك وألسنتنا بذكرك، وأبداننا بطاعتك، وعقولنا بالتفكر في خلقك، والتفقه في دينك… اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك… اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين… اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وتدفع بها الفتن والمحن عنا يا أرحم الراحمين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين من كل سوء ومكروه، واجعله بلداً آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وأظله بظل الإسلام والإيمان، وبنعمة الأمن والأمان والاستقرار والوحدة وألف بين قلوبنا رعاة ورعية، وأهد الجميع للتي هي أقوم.

اللهم ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.  اللهم من أراد المسلمين، ودينهم ومقدساتهم، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء. اللهم كن للمستضعفين والمظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً. اللهم أحفظ أهلنا في فلسطين وأحفظ المسجد الأقصى واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنَ لنا أحباباً قد فقدناهم، وفي التُراب وسدَناهم، اللهم فاجعل النور في قبورهم يغشاهم، واكتُب يا ربنا الجنة سُكناهم، واكتُب لنا في دار النعيم لُقياهم، إنك مولانا ومولاهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)